وانتصف رمضان

ها هي ذي الأيام تمضي خاطفةً كالبرق، وها هو ذا رمضان يجري مسرعا كالضوء، وها نحن أُولاءِ في منتصف الطريق، لا ندري أنحزن على الفائت منه ونبكي، أم نفرح للقادم منه فنضحك، صحيح أن الطاعة شاقةٌ والعبادة مرهقةٌ، لكن الأجر عظيم والثواب عميم، فطوبى لمن اجتهد فيما فات من رمضان، وبشرى لمن لم تسعفه الأحوال والظروف، فإن مضى من هذا الشهر نصفُه، فنصفُه الآخر لم ينتهي بعد، فعسى أن يكون آخِر هذا الشهر خيراً من أوله، وعسى أن يجعل الله خير أعمالنا خواتيمها.

انتصف رمضان، وفي القلب فرحة بأجرٍ عند الله لا يضيع، وثوابٍ عند الرحمان بديع، فكم من صلاة روَّضتنا على الطاعة فأديناها بخشوع، وكم من صيام عوَّدنا على الصبر فإذا القلب قنوع، وكم من صدقة أدَّيناها تطهرة للنفس فإذا الحواس انقياد وخضوع. انتصف رمضان فكُتب للصائمين أجرهم فيما فات منه ومضى، وللقائمين ثوابهم فيما مرَّ منه وانقضى، وللذاكرين فيه جزاء ورضَا، فليفرح الصائمون بصبرهم، وليهنأ القائمون بعزمهم، وليسعد الذاكرون بوصلهم، فرمضان كان وسيظل شهر الخيرات، به يتحقق الأمل وفيه تنزل الرحمات.

انتصف رمضان، وفي النفس أمل بإكمال المشوار بنفس الهمة أو أكثر، ونفس العزيمة أو أكبر، ونفس الصبر على طاعة الرحمان، ونفس التحمل في سبيل العزيز المنان، فليس لنا في الآخرة إلا ما قدمناه في الدنيا، وليس لنا في الدنيا من فرص تعزز رصيدنا من الأجر والثواب مثل هذا الشهر الكريم وهذه النفحات العظيمة، انتصف رمضان ولنا في نصفه المنقضي عبرة وتذكرة، ولنا في نصفه الباقي أمل ورجاء، فلنجتهد في الصيام مثلما لم نفعل من قبل، ولنواظب على القيام مثلما لم يحدث من قبل، ولنذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبنا، عساه يشملنا بعغوه الكبير ورحمته الواسعة.

انتصف رمضان، وعلى بعد أيام قليلات نستقبل العشر الأواخر بالعزم والفخر، وفي العشر نفسها نترقب ليلة القدر، فهل في الدنيا شيء كهذا يوجِب الأجر، وهل فيها غير هذا يستحق جهاد النفس حتى النصر. فلنحبس أنفسنا عن شهوات الدنيا ما استطعنا، ولنروضها على الاجتهاد في الطاعة ما قدِرنا، ولتكن همتنا شامخة هذه الأيام، لا يزعزعها صخر ولا حجر، ولا يهزها برد ولا زمهرير ولا مطر. انتصف رمضان، ولكل شيء بداية ولكلٍّ نهاية، فلنتواضع مهما كانت جيدةً بداياتنا، ولنحاسب النفس مهما عظمت حسناتنا، فرمضان انتصف وغدا ينقضي، وأعمارنا في يد الرحمان يوما ستنتهي، فطوبى لمن اجتهد فيما تبقى من هذا الشهر بالصالحات، وعسى أن يتوب الله على المسلمين في هذا الشهر أحياءً وأموات.