القرآن الكريم، بلاغة لا حدود لها
تعريف البلاغة
البلاغة هي الكلام أو النص الذي يجمع من جهة، بين جمال المعنى ووضوح الفكرة وفصاحة العبارة وصحة المعلومة، ويلائم من جهة أخرى، كل هذه العناصر مع الإطار الذي جاءت فيه ومع الأشخاص المخاطَبين وأحوالهم مع ترك أثر ساحر وجميل في نفس المتلقي. ويقوم هذا العِلم على ركيزتين أساسيتين، أولهما الذوق الفطري الذي يساعد المتلقي في الحكم على جودة الكلام أو النص بناءً على نوعية الكلمات، وشكل التراكيب، وجمالية الصور المجازية. وثانيهما الذكاء المتقد الذي بفضله يقوم المتلقي بمقارنة ونقد وتعليل المضمون لتحديد مدى صحته وقوته وثباته. ويتمثل هدف البلاغة في دراسة تعابير القرآن الكريم ومقارنتها بأساليب البُلَغاء من الشعراء والأدباء وغيرهم.
دليل بلاغة القرآن
عندما نزل القرآن على النبي الكريم، كانت قريش ومن حولها من أهل الجزيرة العربية أشد الناس بلاغة وأكثرهم فصاحة، لكن ورغم ذلك لم يجرؤ أيٌّ من جهابذة البلاغة والفصاحة عندهم على نقض فصاحة القرآن الكريم أو إنكار بلاغته أو الإتيان بمثله. وبالإضافة إلى التعابير والأساليب البلاغية الكثيرة التي يَحفل بها القرآن الكريم، يمكن الاستدلال على بلاغته بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث الذي أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة أن أبا جهل سأل الوليد بن المغيرة الذي عُرِف بمعاداته للإسلام، سأله أن ينتقد القرآن مقابل المال فقال قولته الشهيرة: [و الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، لا بِرجزه ولا بِقصيدِه، ولا بأشعار الجنّ. والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا. والله إن لِقَوْلِه الذي يقول لَحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه لَيعلو وما يُعلى عليه].
أنواع البلاغة في القرآن
تنقسم البلاغة إلى ثلاثة أنواع رئيسية أولها علم المعاني الذي يهتم بمعرفة أحوال تركيب الكلام ومطابقته للإطار المصاحب له. ويساهم هذا النوع في الكشف عن بلاغة القرآن الكريم من حيث قوة السبك، وجمال الوصف، وروعة التركيب، وحسن الإيجاز وما شابه ذلك. وثانيها علم البيان الذي يهتم بمعرفة أسرار التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة مع مراعاة مقتضى الحال. ويسعى هذا النوع إلى إيضاح الأصول والقواعد اللغوية التي يعتمد عليها القرآن الكريم لإيراد المعنى الواحد بأساليب متعددة ومتنوعة مع وضوح الدلالة العقلية على نفس المعنى. وثالثها علم البديع الذي يهتم بمعرفة كيفية تحسين الكلام وجعله مطابقا للإطار الوارد فيه. ويسعى هذا النوع إلى استكشاف الأوجه التي تضفي على القرآن الكريم رونقا وحُسناً وجمالا، وتكسوه بألوان بديعة من الجمال اللفظي والمعنوي.
أهمية بلاغة القرآن
تكتسي بلاغة القرآن أهمية بالغة على مستوى الشكل والمضمون. فعلى مستوى الشكل، تساهم بلاغة القرآن الكريم في حسن تذوق الآيات واقتفاء آثارها الفنية والجمالية. وعلى مستوى المضمون، تؤكد بلاغة القرآن الكريم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وعظمة هذا الكتاب وإعجازه في كل ما أخبر به. كما تساعد بلاغة الذكر الحكيم في محاججة غير المسلمين وإقناعهم بصحة هذا الدين. وبالإضافة إلى ذلك، تؤدي البلاغة بطريقة غير مباشرة إلى تهذيب الذوق الفني واللغوي للمسلم خاصة إذا واظب على قراءة كتاب الله وتدبر آياته، وتعينه على اختيار الكلام المناسب للموقف المناسب، وتساعده على تذوق الأحاديث النبوية الشريفة وكتب الأدب وغيرها، وعلى تنمية وتطوير أسلوب الكتابة والتعبير بشكل جميل ومتناسق.
نماذج من بلاغة القرآن
من أمثلة البلاغة في القرآن الكريم جمال الوقْع الذي تتركه كلماته في سمع القارئ كقوله تعالى في سورة النازعات: {أَأَنتم أشد خَلْقا أَمِ السماء بناها، رَفَعَ سَمْكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضُحاها}. ومن بلاغة القرآن كذلك اتساق اللفظ مع المعنى مثل قوله تعالى في سورة التكوير: {وَاللَّيْلِ إذا عَسْعَسَ، والصبح إِذا تنفَّس}، فالقارئ لهذه الآية يكاد يشم رائحة النهار من كلمة " تنفس"، ويكاد يرى المعنى المراد بعينه لا بعقله. ومن بلاغة القرآن أيضا التجسيم والتضخيم كقوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنَّ منكم لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}، ففي هذه الآية تتراءى صورة التباطؤ في شكل العبارة قبل أن يتلقاها ذهن القارئ، لدرجةٍ يكاد معها اللسان أن يتعثر وهو يتخبط فيها حتى يصل ببطء إلى نهايتها.