رجب، شهر الخشية والتقوى، بين السنة والبدعة
يعيش المسلمون في مختلف بقاع العالم هذه الأيام النفحات الأولى لشهر رجب الفضيل الذي يعتبر بالإضافة لشهر ذي القعدة، وذي الحجة و محرم، من الأشهر الحُرُم التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم بقوله في سورة التوبة: [إن عِدَّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حُرُم ذلك الدين القَيِّم فلا تظلموا فيهن أنفسكم]. ويحتل شهر رجب المرتبة السابعة في شهور السنة القمرية أو ما يعرف بالتقويم الهجري.
ويرى اللغويون وأهل العلم أن تسميته مشتقة من الرجوب ومعناها التعظيم والتقديس، ويُحتمَل أن يكون له معنى آخر هو الخوف والخشية لأن العرب تقول (رجب الرجل الأسد) أى هابه وخاف منه. وكانت بعض قبائل العرب تسميه بالشهر الأصب نسبة للرحمة الإلهية التي يصبها الله تعالى على العباد فيه، ويُقال إن أصل تسميته يرجع لكون العرب كانت ترجبه فتترك فيه القتال تعظيما ومهابة له.
وعلى غرار باقي الشهور الهجرية الأخرى، شهد شهر رجب على مدى التاريخ أحداثا إسلامية كبرى، ساهمت بطريقة أو بأخرى في نشر هذا الدين العظيم وتثبيت أُسُسِه وركائزه، ومن ذلك تزامنُه مع الهجرة الأولى إلى الحبشة في السنة الخامسة للهجرة، حيث طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة الكرام أن يهاجروا إلى بلاد الحبشة بعدما اشتد عليهم عذاب المشركين من قريش وأشرافها، فمكثوا فيها فترة من الزمن إلى أن فتح الله عليهم ليعودوا إلى مكة مُعَزَّزِينَ مُكَرَّمِين.
كما تميز شهر رجب بتزامنه مع قيام النبي صلى الله عليه وسلم بإرسال سرية إسلامية مظفرة ضمت ثمانية من الصحابة الكرام يرأسهم عبد الله بن جحش إلى مكان بين مكة والطائف، لتَرَصُّدِ جنود قريش ومعرفة أخبارهم، تمهيدا لغزوة بدر الكبرى، فقامت السرية بدورها كما يجب، وتمكن المسلمون من الانتصار في معركة بدر بفضلها، وبفضل التخطيط النبوي المُحكَم، وشراسة المجاهدين من الصحابة وغيرهم.
وتنضاف لهذه الأحداث غزوة تبوك التي وقعت في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة، ونعيُ النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشى ملك الحبشة عند موته في رجب من نفس السنة، إضافة إلى وقوع حادثة الاسراء والمعراج في السابع والعشرين من شهر رجب حسب بعض المصادر، وفي هذا الأمر اختلاف بين أهل العلم.
لهذه الأسباب وغيرها، ولكونه واحدا من الأشهر الحُرُم التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، يحظى شهر رجب بمكانة عظيمة ودرجة رفيعة في قلوب المسلمين ووجدانهم، فيستقبلونه بمنتهى الحب والتقديس، ويَتحرَّوْنَ فيه إتيان الصالح من الأعمال، وتجنُّبَ السيء من الأفعال والأقوال، فلا يبادرون بالقتال إلا إذا باغتهم الأعداء، ولا يرتكبون المعاصي لأنها أشد تحريما فيه، رغم ضرورة تجنبها في كل وقت وحين.
ويَنصح أهل العلم كل مسلم بإتيان الأعمال الصالحة في شهر رجب وفي غيره، فمن أراد قيام الليل فيه لا حرج عليه، ومن أراد ذكر الله فيه لا بأس به، ومن أراد صوما على سبيل التطوع والتقرب من الله سبحانه وتعالى فلا إثم عليه، شريطة عدم تخصيص هذا الشهر وحده بهذا النوع من الأعمال واتخاذ ذلك كسُنَّةٍ ثابتة تتكرر كل عام، لأن الصحيح من الأحاديث النبوية الشريفة لا يدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على صيام هذا الشهر أو تخصيص وقت معين منه بالصلاة والقيام، لكن ذلك لا يمنع من إتيان الصالحات فيه واحتساب الأجر والثواب عند الله تعالى.