معجزة الإسراء والمعراج

في السنة السابعة للبعثة، وعلى مدى ثلاث سنوات متواصلة، واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحداث المؤلمة والنكبات القاسية على الصعيدين الشخصي والدعوي، فقد عاملته قريش ومن معها من الكفار والمشركين بمنتهى القسوة والشر، وجابهه أشراف قبيلة ثقيف في الطائف بالأذى الجسدي والمعنوي، وفقد بالموازاة مع ذلك أهم مسانديه في الدعوة إلى الله، زوجته خديجة وعمه أبو طالب. فكانت تلك الفترة صعبة التحمل، شديدة الألم، قوية التأثير، إلى أن جاءه الله تعالى بما يسلي قلبه، ويثبت فؤاده، ويعوض آلامه وأحزانه، رحلة لم يشهد التاريخ لها مثيلا، ومعجزة لم يشهد البشر لها نظيرا، هي رحلة الإسراء والمعراج التي قال عنها الحق تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} [الإسراء:1].

تعريف الإسراء والمعراج

الإسراء لغة السير ليلاً، وإصطلاحاً حادثة انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس. أما المعراج لغة فهو الآلة التي يصعد فيها أو بها من أسفل إلى أعلى، كالسلم والدرج وغيرهما، واصطلاحا حادثة صعود الرسول صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس الى السموات السبع وبلوغه سدرة المنتهى. وقد تمت هاتان الرحلتان في ليلة واحدة، على ظهر دابة من دواب الجنة تدعى البراق، وبتوجيه مباشر من جبريل عليه السلام، وتشير بعض المصادر الإسلامية إلى وقوعها قبل الهجرة بسنة واحدة (لكنها مصادر ضعيفة جدا ولم يثبت بالدليل القاطع أي تاريخ مضبوط لهذا الحدث.)

الإطار التاريخي للإسراء والمعراج

عانى الرسول صلى الله عليه وسلم من تبعات الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته قريش على قبيلتي بني هاشم وبني عبد المطلب بكفارهما ومسلميهما في "شِعب أبي طالب" لمدة ثلاث سنوات، لاقوا خلالها مختلف أنواع التجويع والعزلة. ودخل بعد ذلك فيما يعرف بعام الحزن نسبة لحزنه بعد وفاة سنديه العاطفي والاجتماعي زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وعمه أبو طالب اللَّذَين توفيا بشكل متلاحق في السنة العاشرة للبعثة. واستمرت معاناته عندما ذهب إلى أشراف قبيلة ثقيف بالطائف، عساهم يدخلون الإسلام أو ينصروه على قريش، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، فقابلوه بالرفض، وجابهوه بالسخرية، وألحقوا به الأذى المعنوي والجسدي، فشُجَّ رأسه وأُدْمِيَت قدماه وضاقت عليه الدنيا بما رحبت. وفي خضم هذه الظروف العصيبة، فَتحت السماء ذراعيها واستقبلته بكل فرح وترحاب من خلال معجزة الإسراء والمعراج التي ثبتت قلبه، وواست حزنه، وكفكفت دمعه، وحلّقت به في عوالم الطهر والقداسة، لافحة وجهه الكريم بنفحات ربانية عطرة، ونسمات علوية مقدسة.

أحداث الإسراء والمعراج

شق الصدر وإمامة الأنبياء

بينما الرسول صلى الله عليه وسلم نائم ذات ليلة، أتاه جبريل فأيقظه، ثم أركبه خلفه على دابة من دواب الجنة تدعى البراق وهي دون البغل وفوق الحمار كما ورد في صحيح البخاري. فانطلقا على ظهرها حتى وصلا عند الكعبة، فشق جبريل صدر النبي صلى الله عليه وسلم دون ألم، وغسل قلبه الشريف وطهَّره، وملأه حكمة وإيمانا، وهيأه للرحلة العظيمة والأمر الجليل، حيث أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصي ليلة السابع والعشرين من شهر رجب حسب بعض الأقوال غير الموثوقة. فلما وصلا بيت المقدس، ربط جبريل عليه السلام البراق خارج المسجد، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، فوجد الأنبياء جميعهم ينتظرونه تشريفا له، فأَمَّهم هناك وصلى بهم ركعتين.

الصعود للسماوات السبع

بعدما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنبياء جميعهم في المسجد الأقصى، صعد به جبريل عليه السلام إلى السماوات العُلَى حتى بلغ السماء الدنيا، فالتقى فيها بأب البشرية آدم عليه السلام، فسلم عليه فرد عليه، ورحب به وأقر بنبوته، وتكرر المشهد نفسه مع يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم في السماء الثانية، ومع يوسف الصديق في السماء الثالثة، ومع إدريس في السماء الرابعة، ومع هارون بن عمران في السماء الخامسة، وفي السماء السادسة التقى موسى الكليم فسلم عليه وبكى. قيل له ما يبكيك يا موسى؟ قيل أبكي لأن غلاما بُعث بعدي يدخل الجنةَ من أمته أكثر من يدخلها من أمتي. ثم أتى السماء السابعة فوجد فيها ابراهيم الخليل فسلم عليه ورحب به. ليُتِمَّ بذلك عروجه في السماوات السبع حيث التقى مع مقربيها حسب منازلهم ودرجاتهم.

رؤية سدرة المنتهى والبيت المعمور

بعد لقاءه بالأنبياء في السماوات السبع، رُفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى وهي شجرةٌ عظيمة المكانة كبيرة الحجم، لها ثمار تُشبه الجرار الكبيرة، وأوراق مثل آذان الفيلة، وهناك رأى النبي نهرين ظاهرين ونهرين باطنين، فسأل جبريل عليه السلام عنهما فأخبره جبريل أن الباطنَين نهران في الجنة والظاهرَيْن هما النيل والفرات. ثم رُفع له البيت المعمور وهو بيت مشرف في السماء السابعة كل يوم يدخُلُهُ سبعون ألف ملكٍ يصلون فيه ثم يخرجون ولا يعودون أبداً. فأوتي بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل وأُمر أن يختار فيشرب من أحدها، فاختار صلى الله عليه وسلم اللبن، فأخبره جبريل عليه السلام أنه اختار الفطرة والسداد والصلاح له ولأمته جمعاء.

الوقوف بين يدي الله

بعد كل هذه الأحداث العجيبة، دقّت أعظم لحظة في الكون، وأجمل موقف في التاريخ، فتشرَّف الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقف بين يدي الله عز وجل، -ويختلف أهل العلم في مسألة رؤية الرسول لله عز وجل عندما وقف بين يديه، لكن معظمهم يرجحون عدم رؤيته له، ويشيرون إلى أنه تجلى له على شكل نور ساطع دون أن يراه-. في تلك اللحظة الجليلة، صغر العالم في عيني الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلاشت همومه وأحزانه، وانتهت آلامه وعذاباته، ونسي مِحَنَهُ المتتالية ومعاناته المتلاحقة، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، وأعطاه خواتيم سورة البقرة، وغفران كبائر الذنوب لمن يوحد الله ولا يشرك به شيئا، ثم فَرَض عليه وعلى أمته الصلوات، فكانت خمسين في البداية وصارت خمسا في النهاية.

فرض الصلوات الخمس

بعدما رفعت له سدرة المنتهى والبيت المعمور، فُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم خمسون صلاة في اليوم، فأُنزِل فمَرَّ على موسى فأخبره بذلك، فطلب منه أن يرجع إلى الله فيسأله التخفيف لأن أمته لن تطيق ذلك، فرجع فوضع عنه عشرا، ثم أُنزل حتى مَرَّ بموسى مرة أخرى فأخبره، فقال: ارجع الى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل حتى جعلها خمسا، فأمره موسى بالعودة وطلب التخفيف مرة أخرى، فقال: قد استحيت من ربي ولكنني أرضى وأسلم، فلما ابتعد نادى مناد في السماء: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. (رواه البخاري ومسلم).

مشاهد الجنة والنار ليلة المعراج

وفي المعراج دائما، كشف الحجاب للرسول صلى الله عليه وسلم فأراه جبريل عليه السلام الكوثر، وهو نهرٌ أكرم الله به نبيه محمدا دون سواه من الأنبياء والبشر، له حافتان من لؤلؤ، وتربة من المسك. كما رأى نعيم الجنة بمختلف أصنافه، وشاهد عذاب النار بمختلف أهواله. واطلع على مشاهد عجيبة وغريبة ومخيفة، فكان في كل مرة يسأل جبريلَ عنها ليشرحها له، ويوضح له معانيها ودلالاتها.

وهكذا، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم قوما يزرعون ويحصدون في يوم واحد، وكلما حصدوا شيئا عاد كما كان، فأخبره جبريل أن هؤلاء هم المجاهدون في سبيل الله. ثم رأى قوما ترضخ رؤوسهم بالصخر فتتهشم، ثم تعود كما كانت فتتهشم، فأخبره جبريل أن هؤلاء هم تاركو الصلاة المكتوبة. ثم رأى قوما على فروجهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام والبهائم، فأخبره جبريل أن هؤلاء هم تاركوا إخراج الزكاة. ثم رأى أقواما يُقطع من جنوبهم اللحم فيلقمون به، فأخبره جبريل أنهم الهمّازَون اللمًّازون. ثم رأى قوما لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فأخبره جبريل أن هؤلاء هم المغتابون. ثم رأى قوما بين أيديهم لحم نضيج في قدر ولحم نيء في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيء الخبيث ويدَعون اللحم النضيج، فأخبره جبريل أن هؤلاء رجال من أمتك تكون عندهم المرأة الحلال الطيب فيأتون امرأة خبيثة فيبيتون عندها حتى يصبحوا، ونساء من أمتك، يكون عندهن زوج حلال طيب فيأتين رجالاً خبيثين فيبتن عندهم حتى يصبحن.

كما رأى صلى الله عليه وسلم رجلا يجمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها فأخبره جبريل أن هذا الرجل عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها. ثم رأى جحرا صغيرا يخرج منه ثور عظيم، فيحاول الثور أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع. فأخبره جبريل أن هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. ثم رأى النساء اللاتي يزنين ويقتلن أولادهــن معلقات بأثدائهن ومنكسات بأرجلهن يصرخن من فرط الألم والعذاب. ثم رأى خطباء الفتنة تقرض ألسنتهم وشفاهم بمقاريض من حديد. ورأى عقاب آكلي أموال اليتامى ظلماً تُقذَف فى أفواههم قطع من نار فتخرج من أدبارهم. ورأى عقاب أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون بسببها أن يتحركوا من مكانهم. ثم رأى عقاب شاربي الخمر والمسكرات وهم يشربون الصديد الخارج من الزناة. ثم رأى مالكا خازن النار وهو عابس لا يضحك فأخبره جبريل انه لم يضحك منذ خلقت النار.

ثم رأى صلى الله عليه وسلم واديا فوجد فيه ريحًا طيبة باردة، وريح مسك وسمع صوتًا فسأل جبريل عنه فأخبره جبريل أن هذا صوت الجنة تقول: رب آتيني بما وعدتني فقد كثرت غرفي وإستبرقي وحريري وسندسي ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي ومراكبي وعسلي ومائي ولبني وخمري، فآتيني بما وعدتني. قال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا ولم يشرك بي شيئًا ولم يتخذ من دوني أندادًا ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني فقد أعطيته، ومن أقرضني جازيته، ومن توكل علي كفيته، إنني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد، قد أفلح المؤمنون وتبارك الله أحسن الخالقين. قالت الجنة : قد رضيت.

بقلم: محمد رياض

مشاركة هذا المقال:

تعليقات