في رمضان نصنع آخرتنا ولكن أيضا دنيانا

في رمضان نصنع آخرتنا ولكن أيضا دنيانا

رمضان الكريم ورشة روحية فريدة، وفرصة دينية جديدة، يزرع المسلم فيها من الأعمال الدينية ما ينفعه ليوم القيامة، وينجز فيها من الأعمال الدنيوية ما يسهل حياته وحياة الناسِ من حوله. وإذا كان التوجه العام لرمضان يميل إلى تثمين الجانب الروحي وحثِّ الناس على الاجتهاد فيه والمسارعة إليه، فإن ذلك لا يجب بأي حال من الأحوال أن يدفع المسلم إلى إهمال الجوانب الدنيوية من حياته كالعمل والاستثمار والبيع والشراء والتخطيط للمستقبل وغيرها من المعاملات الإنسانية الهادفة والمنتجة. كما يجب أن لا يتحول الحرص على القيام بالعبادات الروحية والاجتهاد فيها إلى مبرر للكسل والتراخي والخمول. وعلى المسلم أن يحاول خلق نوع من التوازن في هذا الأمر عملا بقاعدة لا إفراط ولا تفريط.

ولعل ما يدفعنا إلى هذا الكلام أن الله تعالى خلقنا ونفخ من روحه فينا، ثم جعلنا مستخلَفين في هذه الأرض لغايات جليلة وحِكَم عظيمة، تقتضي من بين ما تقتضيه عبادته سبحانه وتعالى من جهة، وعمارة الأرض من جهة أخرى، لذلك حري بكل مسلم ومسلمة التأمل في أبعاد هذا الاستخلاف وإسقاطه على الجوانب الروحية و المادية معاً، ومن ذلك عدم النظر إلى رمضان كفرصة للتوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي فحسب، وإنما كمحطة لفتح صفحة دنيوية جديدة مِلْؤُها العمل والجد والنشاط. وبذلك يتحقق التوازن في شخصية المسلم فيضرب عصفورين بحجر واحد، يكسب الثواب والأجر للآخرة بالعبادات والطاعات، ويحقق النجاح الاقتصادي والاجتماعي بالتخطيط الجيد، والعمل الدؤوب والتوكل على الله.

وانطلاقا من هذه النظرة المتوازنة للحياة بصفة عامة ولرمضان على وجه الخصوص، يستطيع المسلم حصد النجاحات في الدنيا والآخرة، فيعمل للأولى كأنه سيعيش أبدا، ويعمل للثانية كأنه سيموت غدا. وهكذا يمكن للمسلم أن يقوم بالإضافة إلى الواجبات الدينية في رمضان برسم الاستراتيجيات القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى لحياته الشخصية والأسرية، من خلال الحرص على إنجاز مشاريع متنوعة والإصرار على تحقيق النجاح فيها والصبر على ما قد يواجهها من إكراهات وتحديات، وهي أمور يمكن استخلاصها من رمضان واستثمارها في هذا المجال، فالصيام يعلم الصبر والتحمل والجلد، والقيام يعلم التضحية والحرص والتركيز، والصدقة تعلم الجود والإيثار ونكران الذات، وكلها خصال يحتاجها الإنسان لإنجاح مشاريعه الذاتية والاقتصادية والتنموية.

وليكن لنا في عظماء الإسلام - من الذين أتقنوا فنون الطب والفلسفة والرياضيات وغيرها من العلوم الدنيوية - إسوة حسنة، فقد برع ابن سينا في الطب فلقَّبه الغربيون بأمير الأطباء بفضل اكتشافه لمرض التهاب السحايا وأعراض حصى المثانة ودور العلاج النفسي في شفاء الأمراض الجسدية، وقد اعتُبرت أبحاثه مرجعا علميا في الجامعات الأوروبية حتى القرن 17 الميلادي. كما برع ابن الهيثم في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وطب العيون والإدراك البصري، وهو أول مسلم يستخدم المنهج العلمي في تجاربه. وتنضاف لهذين العلمين أسماء أخرى ضربت المثل في عبقرية الإنسان المسلم وقدرته على الإبداع في العلوم الدنيوية كالخوارزمي في الرياضيات وابن طفيل في الفلسفة، وابن رشد في علم الاجتماع، وسيبويه في النحو والقائمة تطول.

وإنه لمن الجميل في ديننا الإسلامي الحنيف، أن العمل عبادةٌ يثاب عليه العبد ويكافَئ إذا حسُن مضمونه وصدَقت نِيته، فليبادر المسلم بإنشاء المشاريع الهادفة والمبادرات الخلاقة اليوم قبل الغد، ولْيكن هذا الشهر العظيم نقطة الانطلاق ومحطة الإقلاع نحو مستقبل مزهر، فرمضان شهر الخيرات والمسرَّات، وفرصة لتحقيق الآمال والطموحات بالابتهال والدعوات من جهة، وبالأخذ بالأسباب المادية والمعنوية من جهة أخرى، وليتذكر العبد أن الله سبحانه لا يمكن إلا أن يساعد أصحاب الطموحات المشروعة والنيات الحسنة مصداقا لقوله تعالى: {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا}. فلنصنع في رمضان آخرتنا ودنيانا أيضا.

مشاركة هذا المقال:

تعليقات