الناسخ والمنسوخ، تعريفه، مشروعيته، والحكمة منه

تعريف النسخ

النسخ لغةً الإزالةُ. ومن ذلك قول العرب: نسخت الشمس الظّل، أي أزالته وحلَّت مكانه. وهناك حالات يكون فيها النسخ مرادفا لمعاني التبديل والتحويل والتغيير. أما اصطلاحاً فالنسخ يعني رفع حُكم شرعي متقدم بدليل شرعي متأخر. وتستوجب عملية النسخ في القرآن ثلاثة أشياء، أولها الناسخ وهو الله سبحانه وتعالى، وثانيها المنسوخ عنه وهو الحكم المتقدم الذي تَطالُه عملية النسخ، وثالثها المنسوخ إليه وهو الحكم المتأخر الذي حَلَّ محلَّ الحُكم المتقدم وألغاه. ومن مقتضيات النَّسخ في القرآن الكريم أن يكون هناك دليلان متعارضان تعارضًا حقيقيًّا يتعذر الجمع بينهما مثلما يتعذر ترجيح كفة أحدهما على الآخر، وفي هذه الحالة يكون أحدهما ناسخًا للآخر، ويكون الآخر منسوخا.

أدلة النسخ

يستدل أهل العلم على وجود النسخ في الإسلام على عدد من الدلائل المنطقية والنصوص الشرعية. أما الدلائل المنطقية فتتمثل في كون النسخ عملية طبيعية يقبلها العقل لأن مصلحة العبد تتغير عبر الزمن. ولو لم يكن النسخ جائزا لما بُعث النبي الكريم إلى الناس أجمعين، فالرسالة المحمدية ناسخة للشرائع السماوية السابقة. ومن النصوص الشرعية يستدل العلماء بقوله تعالى: ﴿ما ننسخ من آية أو نُنْسِها نأتِ بخير منها أو مثلها﴾، فالنَّسخ هو رفع حُكم بعض الآيات بدليل آخر يأتي بعده، وما من آية ينسخها الله تعالى أو يُزيلها من قلوب الناس إلا ويأتِ بما هو أنفعُ لهم أو مثله لأنه أعلم بمصلحة عباده مصداقا لقوله تعالى: ﴿وإذا بَدَّلْنَا آيةً مكانَ آيةٍ والله أعلم بما يُنَزِّلَُ﴾.

أنواع النسخ

يتحدد النسخ في القرآن الكريم برفع الحكم أو التلاوة أو رفعهما معا، وهو على هذا ثلاثة أنواع، أولها نسخ التلاوة والحكم معا، وثانيها نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وثالثها نسخ التلاوة مع بقاء الحكم. والمقصود بنسخ التلاوة والحكم معا هو بطلان العمل بالحكم الثابت بالنص، إلى جانب إزالة النص من القرآن، وعدم منحه حكم التلاوة من حيث صحة الصلاة به والتعبد بتلاوته، وبالتالي عدم إدراجه في المصحف عند جمع القرآن كآية التحريم بعشر رضعات. أما المقصود بنسخ الحكم وبقاء التلاوة هو بطلان العمل بالحكم الثابت بالنص، وبقاء النص مما يتلى من القرآن ويتعبّد بتلاوته، مع إدراجه في المصحف كآية الوصية وآية العِدة. وفيما يتعلق بنسخ التلاوة مع بقاء الحكم فالمقصود هو تأكيد الحكم الثابت بالنص واستمرار العمل به، مع إزالة النص المنسوخ من المصحف وعدم التعبد بتلاوته. ومثال ذلك آية {الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالًا من الله}، فقد روي أنها كانت في سورة النور وقال عنها عمر: (لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتُها بيدي).

مجالات النسخ

يرى أهل العلم أن مجال النسخ في الإسلام بصفة عامة وفي القرآن بصفة خاصة محصور في الأوامر والنواهي الشرعية فقط، أما الاعتقادات والأخلاق، وأصول العبادات، وما أخبر اللّه سبحانه وتعالى به من وقائع، أو ما بيّنه من علوم ومعارف، والقصص التي ليس فيها الأمر والنهي، فتلك مجالات لا يدخلها النسخ بأي حال من الأحوال. ويعتقد أهل العلم أن الخبرَ لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله سبحانه وتعالى. ومنهم من يرى بجواز النسخ في الخبر إذا تضمن هذا الأخير ُحكمًا شرعيًا مثل قوله تعالى: ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ منه سَكَرًا﴾. فمجال النسخ إذن يتعلق بتغير الأحكام من آية إلى أخرى، أي عندما يتحول الحلال إلى حرام، والحرام إلى حلال، والمباح إلى محظور، والمحظور إلى مباح. ولا يكون ذلك إلاّ في الأوامر والنواهي، أمّا الأخبار والقصص فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.

حِكَم النسخ

للنسخ في الإسلام حِكَمٌ عديدة ومقاصد جليلة، ومن ذلك نذكر على سبيل التخصيص لا التعميم، تخفيف بعض الأحكام أو التدرج فيها عبر الزمن، فمصالح المسلمين عند بداية الدعوة الإسلامية تختلف عنها بعد تكوينها واستقرارها، لذلك اقتضت الحكمة الإلهية تغيُّر بعض الأحكام وتدرجها مراعاةً لمصالح البلاد والعباد، فأحكام المرحلة المكية مثلا مختلفة عن أحكام المرحلة المدنية، وأحكام بداية العهد المدني مختلفة عن أحكام الفترة التي سبقت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقليل. ومن مقاصد النسخ كذلك، ابتلاء المسلمين وامتحانهم لمعرفة درجة امتثالهم لأوامر الله وأحكامه، ومن الحِكم العظيمة للنسخ إرادة الخير للمسلمين جميعهم، فإن كان النسخ من حُكم أخف إلى حُكم أثقل أدى ذلك إلى زيادة الأجر والثواب، وإن كان النسخ من حُكم أثقل إلى حُكم أخف أدى ذلك إلى تسهيل أمور المسلمين وتيسيرها.

بقلم: محمد الحياني

مشاركة هذا المقال:

تعليقات