يُعتبر حُكم الغناء والموسيقى في الإسلام من المواضيع الخلافية بين أهل العلم قديما وحديثا. ويتجلى هذا الاختلاف على مستوى النصوص والأدلة الواردة بشأن إباحة أو تحريم الغناء والموسيقى المصاحبة له. فمن أهل العلم من أفتى بالتحريم اعتمادا على بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومنهم من أفتى بالإباحة نظرا لغموض هذه النصوص أو ضعفها، ومنهم من توسط واعتدل فأحل بعض الأصناف من الغناء والموسيقى وحرم غيرها. ونقدم لكم في الأسطر التالية ثلة من آراء وأقوال العلماء القدماء والمعاصرين في هذه المسألة.
من العلماء المؤيدين لتحريم الغناء والموسيقى نجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي يرى في كتابه (المجموع) أن مذهب الأئمة الأربعة يتلخص في كون آلات اللهو كلها حرام، مشيرا إلى أن "المعازف خمر النفوس، تفعل بها أعظم مما تفعل حميا الكؤوس". وفي نفس التوجه أيضا، يرى الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله أن الغناء والموسيقى حرام، ويقول في الصفحة 441 من كتاب مدارج السالكين بعدم إباحة الغناء والمعازف مستشهدا بأن الذي شاهدناه- نحن وغيرنا- وعرفناه بالتجارب أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدوّ وبُلوا بالقحط والجدب وولاة السوء.
ومن العلماء المعاصرين القائلين بتحريم الغناء كذلك، نجد الشيخ الألباني رحمه الله، والذي أعلن في كتابه المعروف (تحريم آلات الطرب ص 105) عن تحريم الغناء والمعازف، لكونها -حسب رأيه- تؤدي إلى الإلهاء عن ذكر الله تعالى مستشهدا بقوله تعالى: [ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليُضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذَها هزؤا أولئك لهم عذاب مُهين]. نفس الرأي يتبناه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، حيث يقول في الصفحة 394 من كتابه فتاوى إسلامية أن الغناء محرم عند جمهور أهل العلم، وإذا كان معه آلة كالموسيقى والعود والرباب ونحو ذلك حرم بإجماع المسلمين. من جانبه يقوم فضيلة الشيخ العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله في الصفحة 392 من كتابه "فتاوى إسلامية" بالتحذير من استماع الأغاني والموسيقى، معتبرا أن الأدلة على تحريمها واضحة وصريحة.
وعلى الطرف الآخر نجد من أهل العلم من يبيح الغناء والموسيقى لعدم وضوح النصوص المحرمة لها أو ضعفها، فمن السلف الصالح مثلا، نذكر حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وهو أحد أعلام المذهب الشافعي، والذي يرى في كتاب "آداب السماع والوجد" بإباحة الآلات الموسيقية نافيا أن يكون الغناء سببا للتحريم بذاته وإنما لموضوعه مشيرا إلى أن: "سماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور، ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان، فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمى كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره".
ومن المؤيدين لهذه الفكرة كذلك، نجد الإمام أبو محمد على بن حزم الأندلسي الملقب بالإمام البحر، ذو الفنون والمعارف، وهو أحد أكبر علماء الأندلس والإسلام تصنيفًا وتأليفًا بعد الطبري. وقد قام في مؤلفه الشهير "المحلى"، ورسالته المعروفة " الغناء" بإباحة الغناء والموسيقى، مستشهدا على ذلك بضعف حديث أبي مالكٍ الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)، ويرى ابن حزم أن استماع الموسيقى مباح مثل التَّنَزُّه في البساتين الجميلة وارتداء الملابس الملونة وغيرها.
ومن العلماء المعاصرين المؤيدين لإباحة الغناء والموسيقى كذلك، نجد الشيخ العلامة يوسف القرضاوي الذي أفتى في كتابه "فتاوى معاصرة"، وفي فصل كامل من كتابه (ملامح المجتمع الإسلامي)، ورسالته المستقلة (الإسلام والفن)، وفي كتابه (فقه الغناء والموسيقى)، بإباحة الغناء والموسيقى شريطة اتفاق موضوعها وطريقة أدائها مع أدب الإسلام وتعاليمه، وذلك بخلوها من تمجيد المحرمات كالخمر والقتل والظلم وغيرها. نفس الرأي أيضا أفتى به الامام العلامة علي جمعة مفتى الديار المصرية، الذي يرى في الجزء الأول من كتابه (البيان لما يشغل الاذهان)، بإباحة الغناء والموسيقى مشيرا إلى عدم صحة تحريم المعازف لضعف النصوص الواردة بشأنها أو غموضها.
ومن المؤيدين المعاصرين لإباحة الغناء والموسيقى أيضا نذكر علامة المغرب الشيخ فريد الانصاري، الذي صرح في محاضرة له على اليوتوب حول هذا الموضوع بما مفاده أن حكم الغناء والموسيقى من المسائل المسكوت عنها في الشرع الحنيف والتي لا دليل على تحريمها في الكتاب أو السنة. مستنتجا أنها عفو مباح لا يحرم إلا لمقصد إستخدامه. وقد كانت الموسيقى وآلاتها - يضيف فضيلته- معروفة منذ الجاهلية وقبل الإسلام ومع ذلك لم ينزل نص صريح صحيح عن تحريمها. وعن حديث المعازف الذي يستشهد به القائلون بتحريم الغناء والموسيقى يرى فضيلته أنه حديث ظني الدلالة، ويدخل في باب الفتن وليس التشريع.
ومن العلماء المعاصرين الذين اتخذوا موقفا محايدا في الموضوع نجد الشيخ الدكتور سلمان العودة الذي يرى في الفتوى الصادرة عن المكتب العلمي بمؤسسة الإسلام اليوم بالقصيم سنة 1428هـ، أن الغناء والمعازف بما في ذلك الأناشيد الإسلامية، من الأمور الثانوية التي وقع فيها خلاف بين العلماء، مشيرا إلى أن الموضوع يدخل في المسائل التي يجوز فيها الخلاف وليست من الاصول التي يناط بها الولاء والبراء، لذلك ينصح فضيلته بعدم الإيغال في المسألة وعدم جعلها أولوية حتى لا يكون ذلك سببا للفرقة وإختلاف القلوب. منوها إلى أهمية الحرص على الحفاظ على صفاء النفوس ودوام المودة والألفة بين المسلمين مهما بلغت درجة اختلافهم في هذا الموضوع.
وبناء على ما سبق، يتضح أن حكم الغناء والموسيقى موضوع خلافي بين العلماء، والراجح لدينا أن تحريم الغناء والموسيقى لا يكون لذاتهما وإنما لمضمونهما وكيفية أدائهما. فإذا كان المضمون حسنا والطريقة مقبولة كالأناشيد الإسلامية مثلا، فهذا تعبير إنساني الهدف منه توعية الناس والترفيه عليهم. أما إذا كان المضمون هابطا والطريقة فاسدة كالأغاني المصورة التي كثرت هذه الأيام، والتي تميل إلى استغباء الجمهور وإمطاره بالصور الخليعة والكلام الساقط فلا حاجة للمسلم بها. والمؤسف أن معظم الأنواع الموسيقية والغنائية المنتشرة في عصرنا الحالي تعتمد على الاغراء والتفاهات عوض التثقيف الجاد والترفيه الحسن والتعبير النبيل. والغناء في نظرنا كالشعر، إن كان حسنا فأهلاً به، وإن كان فاسدا فلا مرحبا به.
والله أعلم.
بقلم: محمد الحياني
تعليقات